الأمـن الثقـافي: مفهومه ودواعيه وعوامل تحقيقه

مع مرور الزمن وتسارع التطور التكنولوجي، غلبت ثقافة العولمة في أرجاء المعمورة فتحول العالم إلى قرية صغيرة، وأصبح تبادل المعلومات والأفكار أسرع من غمضة عين والمعلومات متاحة بضغطة زر، وانتقلت الأفكار المتباينة وأحيانا الغريبة بين مختلف الطوائف من البشر فتارة تجمعهم وتارة أخرى تفرقهم، وسادت سياسة العولمة والثقافة الكونية على الحضارات ذات الجذور البعيدة.
مع كل هذا التطور التكنولوجي الهائل والتغيير في جغرافية الزمان والمكان، والدول والأشخاص، يطل علينا مصطلح الأمن الثقافي ليدق بقوة ناقوس الخطر من انهيار الحضارات وتدهور ثقافات الشعوب، ويعلن أهمية تواجده على الساحة المعاصرة وبقوة كمنهج ضروري في سياسات الدول كالأمن الاقتصادي والقومي والغذائي أو حتى السياسي، وكسلاح قوي في مواجهة الجماعات الإرهابية المتشددة فكرياً التي تحارب الحضارات والشعوب بأفكار هدامة وعنف مفرط وحروب لا تنتهي، وكذلك كمحور هام من محاور حياة البشر اليومية بعد أن حولت التكنولوجيا الدول المختلفة والمتباعدة إلى بيوت صغيرة في عالم واحد، اتسعت حدوده وتلاشت مع الانتقال السريع بل الفوري للمعلومات والأحداث.
مفهوم الأمن الثقافي
الأمن الثقافي هو مصطلح يبدو للوهلة الأولى متناقض المفردات، فهو كمصطلح لفظي يتكون من كلمتين ذات معنيين مختلفين - هما الأمن والثقافة - فالأمن كمفهوم عام ومتداول هو توفير الجو الآمن لتداول الحريات التي نمارسها ودلالته دوما تشير إلى الدفاع، العزلة والسيطرة لتوفير الحماية المطلوبة، أو الانغلاق والتكتم لو تطلب الأمر ذلك في أحيان كثيرة. أما الثقافة فتتضمن حسب الكثير من التعريفات المختلفة والمتعددة النشاط الفكري والفني للأعمال المنتجة من جهة والمعتقدات والفنون والعادات والآثار والأعمال التي ينتجها مجموعة من الناس في وقت ما عبر التاريخ من جهة أخرى. وهو المفهوم الذي يتناقض بكل تأكيد مع مفهوم الأمن، فمفهوم الثقافة المتداول والمعروف يشير دوماً إلى الإبداع والانفتاح والتحرر من القيود للتعامل مع الآخر وتبادل الآراء المختلفة والهامة والمطلوبة تبعاً لاختلاف التجربة والبيئة المحيطة والمراحل العمرية في أزمان مختلفة.
تعتبر الثقافة جزءًا مهمًا وحيويًا من الحضارة وانعكاسًا لمعنى الحياة في مراحلها المختلفة وشكلها المتغير من مكان لآخر، وتبعاً لهذ المفهوم تعتبر الثقافة قوة لا يستهان بها في الشؤون العالمية والعلاقات بين الأمم وبعضها البعض، فيكفي أنها المفهوم الأوسع والأشمل لأشكال هامة ومختلفة من مناحي الحياة وممارستها اليومية كما أنها تتضمن أعمالًا وموجودات مختلفة تعكس بكل تأكيد حضارات الشعوب وفكرهم المبدع سواء كانت معابد أو متاحف أو آثارًا أو فنونًا، بالإضافة إلى الإعلام بكل روافده الأخرى الهامة الذي يشكل جانبًا ثقافيًا مهمًا ومؤثرًا في رسم السياسات وتحديد الأولويات وأسلوب الأداء، مما يجعل الوصف الأقرب للثقافة أنها الحروف التي بها نكتب تاريخنا البشري.
إن هذا الشرح السريع والبسيط للمعنى السائد والمتداول لكل من الأمن والثقافة يطرح للوهلة الأولى تساؤلًا هامًا: كيف يجتمع الأمن والثقافة في مصطلح واحد ليعكسا مفهومًا حضاريًا غاية في الأهمية وضرورة ملحة لضمان استمرار الحياة؟ على الرغم من أن التعريف السابق قد يعبر في ظاهره عن التناقض إلا أنه في باطنه يعكس التلازم والترابط والتكامل. فالثقافة لا يكتمل وجودها دون توفير قواعد أمنية هامة تحميها، والأمن بمفهومه الأعمق هو حصيلة مجموعة من الإجراءات والتدابير الوقائية والعقابية التي قد تتخذها السلطة للحماية انطلاقاً من المبادئ التي تدين بها الأمة ولا تتعارض أو تتناقض مع المصالح المعتبرة لتحقيق أهداف وغايات أي مجتمع. إذاً فالأمن الثقافي هو قدرتنا على توفير الحماية المطلوبة للثقافة لتحقيق حرية الإبداع من جهة والحفاظ على مكتسبات الشعوب الثقافية والفنية والدينية من جهة أخرى.
الأمن الثقافي هو مفهوم إيجابي وتفاعلي لتأسيس رؤية جديدة للأمن حين يترادف مع الثقافة، ويتم استخدامه بالشكل المطلوب لتوفير احتياجات المجتمع ويكفل حرية الرأي والرأي الآخر ويحفظ حقوق الدول والأفراد على حدٍ سواء فيما يمتلكون من ثقافات وآثار وفنون وأعمال فنية، هو إرساء لمفهوم مختلف من التفاعل الإنساني والعلاقات المستمرة والمتبادلة بين أنواع مختلفة من البشر، ومفهوم جديد للتعامل الحضاري الناضج القائم على الاحترام والتقدير بين الأمم وبعضها، فهو عنصر هام من عناصر النهضة المجتمعية ومظهر من مظاهر القدرة على التحرر واسترداد هويتنا البشرية والإنسانية المفقودة. الأمن الثقافي هو البيئة الصالحة والحاضنة للتعايش السلمي والقضاء على الإرهاب والجريمة بكل أشكالها، وبالتالي فهو مجموعة من الإجراءات والأفكار والقواعد والقوانين التي يجب اتخاذها وتحقيقها للوصول إلى التنمية البشرية بمفهومها الشامل، وتحقيق السلامة والاستقرار والحماية والحرية لخدمة أهداف وغايات المجتمعات، والتقدم إلى الأمام دون خوف أو رهبة بكل ثبات وثقة.
أهمية الأمن الثقافي
إن الأمن الثقافي بمفهومه الواسع والشامل له أهمية بالغة في حياتنا المعاصرة، وخاصة في ظل التحديات التي نواجهها كل يوم من آثار العولمة السلبية، ورغبة الدول الكبرى في السيطرة على الدول الصغرى، أو حتى رغبة الدول الحديثة التي تتسلح بالقدرة العلمية والتكنولوجية في السيطرة على الدول ذات الحضارات التاريخية والثقافات المتأصلة عبر التاريخ لمصالح خاصة، حتى أننا قد نعتبر أهمية الأمن الثقافي بأهمية الأمن القومي للدول، فأهمية الأمن الثقافي تكمن في أنه الحل الحضاري والآمن للتعبير عن قدرتنا على الحفاظ على هويتنا، وصيانة الثقافة التي تنشأ بلا شك من الثقة بالنفس، والقدرة على التفاعل الواعي مع مختلف العوامل، واستيعاب الآراء المتباينة والجديدة وتفهمها للوصول إلى الفكر المتوازن والمطلوب للتواصل والتفاعل مع الآخر في عصر متغير ومتطور كل ثانية. فأهمية الأمن الثقافي تكمن في الحفاظ على الهوية والانتماء، والوصول إلى الأمن والاستقرار في جميع نواحي الحياة سواء داخل الوطن الواحد أو بين الدول المتباينة المصالح والمختلفة التوجهات.
وهنا يجب أن نشير إلى نماذج كثيرة ومختلفة على مدى التاريخ لطمس الآثار وهدم الحضارات لم تجد من الحماية ما يمنع من هدمها وطمسها، وكان هذا السلوك المشين تجاه الحضارات وثقافات الشعوب أحد أهم الوسائل المستخدمة في الحروب قديماً وحديثاً، سواء للوصول إلى النصر المطلوب وطمس هوية الآخر، أو إعلاء مصلحة ما، حتى برز في الآونة الأخيرة مصطلح (حروب الجيل الرابع)، وهو المصطلح الذي أطلقه مجموعة من الخبراء العسكريين الأمريكيين للإشارة إلى  اللامركزية في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وهي نوعية الحروب التي عرفها البروفيسور الأمريكي "ماكس مايوراينگ" في معهد الأمن القومي الإسرائيلي بقوله "الحرب بالإكراه، إفشال الدولة، زعزعة استقرار الدولة ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية".
لقد اتخذت الولايات المتحددة من هذه النوعية من الحروب ذريعة للسطو على حضارات الشعوب وثقافاتها وتغيير معالم جغرافية أراضيها، وزرع الفتنة والنزعة الطائفية بين سكانها، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط التي تتواجد بها تلك التنظيمات الإرهابية وتنتشر بقوة في أرجاء الوطن العربي. إن هذه التنظيمات الإرهابية تتميز بالاحترافية العسكرية والإمكانيات المادية الممتازة للتسليح وضرب مصالح الدول الأخرى الحيوية كالمرافق الاقتصادية وخطوط المواصلات، في محاولة لإضعاف تلك الدول أمام الرأي العام الداخلي بغية إرغامها على الانسحاب من التدخل في مناطق نفوذ تلك التنظيمات أو محاول إنهاء وجودها. إن هذه القدرة العسكرية والإمكانيات التي لا حدود لها تطرح دوماً تساؤلًا ملحًا: كيف وصلت تلك التنظيمات لهذا الحد من القوة والجبروت والتأثير؟ وبدون شك مع هذا التساؤل يتبادر فوراً إلى الذهن أشهر تنظيمين عكسا تلك السلطة والقوة والجبروت حتي وقتنا المعاصر وهما تنظيما القاعدة وداعش، فالأول كان تأثير ضرره وفساده عالميًا، أما الثاني فتمركز في منطقة الشرق الأوسط وعمل على خلخلة النظام السياسي وإنهاء الحكم الموجود بها وإرساء قواعد دولة عسكرية جديدة حدودها الوطن العربي كله، وأعلن الحرب على المنطقة وعلى كل ما يخالف فكره ومبادئه وقواعده الاستثنائية. إن هذه النوعية من حروب الجيل الرابع كما أطلقوا عليها تستخدم وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية والغير تقليدية ومنظمات المجتمع المدني والمعارضة والعمليات الاستخبارية والنفوذ الأمريكي في أي بلد لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات البنتاغون.
لقد نبتت تلك التنظيمات من الأفكار المشوهة المزروعة في عقول بعض البشر، وكنتيجة طبيعية للفقر والجهل وانعدام الديمقراطية وانهيار الثقافة والأخلاق، وكوسيلة لتحقيق أهداف ومصالح دول متعددة، فكان من الطبيعي أن تقوم بهدم الحضارات القديمة الموجودة في المنطقة العربية كتدمير متحف الموصل في العراق الذي يرجع تاريخه إلى الدولة الأشورية في القرن التاسع قبل الميلاد، وكذلك سور نينوى في الموصل الذي يعود تاريخه أيضاً إلى عصر الآشوريين، وكان جزء كبير من هذا السور مطمورًا وغير ظاهر مما يثير التساؤل لماذا تم هدمه إن لم يكن لطمس تلك الحضارة التي وصلت لنا عبر ملايين السنين. من الآثار أيضاً التي تم تدميرها على أيدي تنظيم داعش في العراق (الكنيسة الخضراء في تكريت والتي تعود إلى  القرن السابع الميلادي كما يرجح أو الثاني عشر كما يعتقد)، وكذلك مزار الأربعين صحابي والذي يضم قبر 40 صحابيًا وهو ضمن الآثار الإسلامية التي يرجع تاريخها إلى  السنة 11 بعد الهجرة اثناء الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب)، هذا بخلاف قتل الأبرياء الذين هم أمل الأمة في استمرار الحياة ونقل الخبرات وإنهاء أنسال بشرية من الاستمرار والتواجد عبر التاريخ، وحيث إن الشيء بالشيء فقطعاً لن ننسى أن نذكر تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان عام 2001 على يد طالبان. إن كل تلك الأمثلة هي دليل مؤكد على نوع مختلف من الحروب لا تستهدف سوى طمس الهوية والحضارة وتاريخ تلك الدول، بالإضافة إلى  زرع الطائفية والعنصرية غير المبررة.
على الجانب الآخر نجد حروباً أخرى تستهدف الأعمال الفنية وسرقة الآثار وتجنيد العلماء والباحثين لسرقة تلك النوعية من الفنون واقتناء مالا تملك تلك الدول وإلحاقها بمتاحفها واعتبار ذلك انتصاراً لها. وكان من المعروف قديماً أن التداعيات السياسية التي تخلفها أي نوع من تلك الحروب يتم تحديدها بناء على كمية الدمار التي تخلفها تلك الدول على المواقع التاريخية والآثار الدينية وغيرها من فنون الدول المستهدفة في الحرب واعتبارها عنصراً مكملاً للنصر العسكري إن وجد. ففي الحرب العالمية الثانية خطط أنصار النازية لنهب الأعمال الفنية وتدمير الهياكل التاريخية للعدو كتكتيك إستراتيجي، وخلال الحرب الباردة أيضاً مكنت الاكتشافات الأثرية في الدول النامية من تزايد القطع الأثرية الثقافية وقادت الدراسات القانونية فيما بعد حول نقل الممتلكات الثقافية إلى تصاعد قيمة وأهمية التراث الثقافي واعتبارها جزءًا من معركة سرية للسيطرة على العالم الثالث، أما بعد انتهاء الحرب الباردة فانتشرت الجريمة المنظمة لتجارة الآثار ونقلها من مواقعها التاريخية ونشر الإرهاب والتطرف الديني لتغيير هوية تلك المجتمعات وطمس وجودها.
إن كل تلك الأمثلة التي حاولت إبراز أقربها حدثاً وأكثرها ضرراً، وتوضيح معالم أثرها المدمر على المنطقة العربية، تنتهي بنا إلى مطلب واحد ملح وضروي وهو العمل على الحفاظ على وجودنا والتمسك أكثر بهويتنا والعمل على إقرار الأمن الثقافي كحل أمني هام بل غاية في الأهمية بكل الطرق والوسائل والأشكال المعروفة وغير المعروفة، فالحرب بين الدول والثقافات لم تعد حربًا تقليدية بأسلحة معروفة بل هي حرب على التنمية البشرية والفكرية، حرب نفسية في المقام الأول، حرب تحاول وبكل قوة هدم الحضارات والعادات والتقاليد والثقافات. لقد أصبح زعزعة الأمن الثقافي منهج وأسلوب الدول المستهدفة من تلك الحروب لفرض إستراتيجياتها وإرادتها وإدارة مواردها من أجل حماية شعوبها وضمان استمرار وجودها بقوة، فالأمن الثقافي يحمل بين طياته طرق الدفاع المطلوبة لمنع استباحة موارد الدول المادية والبشرية ودرء الخطر الذي يستهدف سيادة الدول ووجودها وتطورها المستقبلي.
الأمن الثقافي العربي
إن ظاهرة العولمة كانت في بداياتها ظاهرة إيجابية، الغرض منها تحرير الحدود والفواصل الفكرية والثقافية وتبادل الخدمات والإنتاج والتواصل بشكل أقرب بين الشعوب، لكنها مع الوقت انتهت إلى المطالبة بتحرير الأموال والسلع والفكر وإنهاء التعددية الثقافية وسلخ الشعوب من هويتها الثقافية واللغوية لصالح ثقافة واحدة هي الثقافة الكونية، والسيطرة على العالم من جانب بعض الدول وإعلاء هيمنة مصلحتها.
إن هذه الثقافة الكونية تعمل على إخضاع كافة الثقافات لسطوتها المعرفية بغض النظر عن طبيعة البيئات أو الخصوصيات الثقافية التي تتميز بها الثقافات المحلية لكل دولة أو أصالة حضاراتها وقيمها وتنوعها، فالعولمة أصبحت تهديدًا حقيقيًا للخصائص الجوهرية التي يتمتع بها الوطن العربي من قيم وعادات ولغة وثقافة، وما لم يتم تهذيب هذه الثقافة الكونية وتحجيم دورها العابث في تغيير معالم الشعوب سينتهي الوجود العربي وتتشوه معالمه. فالعولمة تمثل الشكل الجديد والعصري للاستعمار، والثقافة الكونية الحديثة تطالب بإنهاء الثقافة المحلية التي تنبع من وتتلازم بشكل قوي مع الدين واللغة والوجود، ومن هنا تبرز أهمية الأمن الثقافي العربي كمطلب أولي وهام للحفاظ على الكيان العربي كأداة لفرض الوجود والحفاظ على الهوية والاستمرارية وكذلك الحفاظ على مكتسباتنا الحضارية وهويتنا وتقاليدنا وعادتنا.
إن هويتنا العربية نستمدها من هويتنا الثقافية مهما اختلف مرجعها الأصولي، وهي حائط الصد أمام المحاولات المستمرة للعالم الغربي لفرض فكره وسيطرته علينا من خلال تغيير الهوية والاختراق اللغوي والفكري والثقافي لنا، وإجبارنا على التطلع للغد بعيون غربية لا ترى في العالم العربي سوى موارد لا تنتهي وموقع إستراتيجي مميز لا مثيل له على سطح الكرة الأرضية.
متطلبات تحقيق الأمن الثقافي العربي
إن تحقيق الأمن الثقافي العربي له متطلبات ووسائل وعوامل هامة أحاول أن أستعرضها حسب أهميتها وتأثير وجودها في العالم العربي:
1-      الدين والعقيدة:
من أهم عوامل تحقيق الأمن الثقافي العربي هو ترسيخ عقيدة دينية صحيحة كشجرة جذورها تمتد إلى أعماق التاريخ والقلوب وثمارها تنطلق في فضاء رحب لتصل في أثرها إلى  عنان السماء، وتكون مرجعًا لكل أمور الدنيا المختلفة والمتعددة، وتصل بنا إلى فكرة أنه لا فرق بين عربي وآخر سوى التقوى والعمل الصالح والتوافق والتكامل والسمو بالروح، ونبني من خلالها شخصية عربية تؤمن بالعلم كنواة للحياة دون تشويه أو تشدد أو فرض لديانة أمام أخرى (فالله كفل لكل البشر حرية اختيار الدين والعبادة)، أو فكر أمام آخر. وتبدأ هذه التنشئة من إرساء قواعد الدين الصحيح من المرحلة الأولى في حياة الإنسان (الطفولة)، وصولاً إلى الشباب الصاعد والواعد من خلال تنمية الوعي الديني بأساليب تقترب من فكرهم وتقديم القدوة المباشرة قولاً وسلوكاً مع طرح القضايا الدينية مثار الخلاف للنقاش والاجتهاد وإنهاء العنف بكافة أشكاله في التعامل بين طوائف وطبقات المجتمع المختلفة، مع ترسيخ فكرة أن الديمقراطية من أهم معايير وقيم الدين الصحيح لأن بها يتحقق العدل والتعايش السلمي. إن الوصول إلى الدين الصحيح هو الحماية الوحيدة من الانتهاكات بكافة مستوياتها وبالتأكيد من أهم وسائل الحماية والأمن الثقافي العربي.
  2-      اللغة العربية:
اللغة العربية من أقدم اللغات في وجه الأرض بل إن بعض الدراسات أشارت إلى  أن كل اللغات الأخرى ترجع في أصولها وتنحدر من اللغة العربية، فاللغة العربية هي هويتنا التاريخية التي لا يجب أن نتخلى عنها لصالح أي لغة أو لغات أخرى. تتميز اللغة العربية بأنها الأوسع في التأثير والوصول، فهي تحتوي على ألفاظ ومعاني لا تتواجد في اللغات الأخرى ومن الصعب التعبير عنها في سواها، فهي لغة حية بنبض مفرداتها المعبرة بقوة عن المعاني الصعبة والمتعددة وبأساليب سهلة ومركبة، وهي لغة متجددة ولا تموت وتواكب كل التغييرات التي تطرأ في أي مرحلة زمنية. ولذلك فإنه يجب على الدول العربية إنهاء اغتراب اللغة بين الشباب ونشر الوعي بارتباطها الوثيق بهويتنا بل وضرورة الفخر بها فاللغة هي خط الدفاع الأول للأمن القومي العربي، وهي العامل الأول والأهم في أساس الوحدة العربية والارتباط ضد الاستعمار الفكري.
3-      الأخلاق وتنمية الوعي بقيمتها ودورها:
الأخلاق هي مجموعة من القواعد السلوكية التي تحدد أسلوب حياتنا وتعبر عن أفكارنا وعقيدتنا، وبالتالي هي ضرورة من ضرورات تنظيم المجتمع والعلاقة بين أبنائه، وغيابها مهد الطريق للفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، وكذلك مهد الطريق للعنف والقضاء على الحضارة والحياة في أجمل أشكالها. الأخلاق هي لغة الربط بين الأجيال وهي حلقة الوصل في نقل الأفكار والحضارة من جيل لجيل، وهي الضمان للإرادة والعزيمة والقوة التي تنشأ من تماسك أفراد المجتمع. إن معظم أزمات المجتمعات العربية المعاصرة سببها الغزو الثقافي للأخلاق عبر وسائل الإعلام المختلفة ولن تنتهي هذه الأزمات إلا بعودة الأخلاق من خلال:
·          وضع قوانين إنسانية ترسي مبادئ القيم التي تشكل ثقافتنا على مدى التاريخ.
·          جعل مادة الأخلاق من المواد الهامة والرئيسية في المناهج الدراسية.
·          ربطها بالأنشطة الرياضية والثقافية المختلفة.
·          أن تكون حجر الأساس في التبادل العلمي والتكنولوجي مع الآخر.
·          وضع معايير وقوانين تسمح بمتابعة وتدقيق ما يتدفق في وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية من مواد إعلامية هابطة ومبتذلة وهدامة لقيم شبابنا.
4-      مراعاة التنشئة الاجتماعية وأهميتها في التكيف والتواصل بين أفراد المجتمع الواحد، وتبني احترام ثقافات الشعوب على التنشئة الاجتماعية السليمة من خلال غرس قيمنا وتقاليدنا الأخلاقية والإنسانية الهامة، ويتم من خلالها تقدير الوعي المجتمعي للتغيرات الاجتماعية الناتجة عن تكنولوجيا التواصل ومشاكلها المرتبطة بالعولمة كالبطالة وارتفاع معدل الطلاق والهجرة وضعف الانتماء الاجتماعي والنفسي والوطني لدى قاعدة عريضة من الشباب الصاعد. إن هذا الوعي المجتمعي عنصر هام لتحقيق الأمن الثقافي العربي والأمن القومي، فالإصلاح والتطوير المستمر في المجتمع وإرساء قواعد الانتماء الاجتماعي والوطني لن تكون إلا من خلاله، وبه نستطيع الوصول إلى حتمية تنمية القدرات الإبداعية لمواجهة التحديات القادمة واكتساب المهارات المطلوبة للحفاظ على الهوية الثقافية المبينة على الوعي الاجتماعي البيئي للدول العربية.
5-      نشر روح المواطنة الصالحة في المجتمع:
إن المواطنة الصالحة هو مفهوم قائم على العلاقة الإيجابية بين الفرد والمجتمع على أساس التكامل، فهو انتماء نفسي وارتباط اجتماعي قبل أن يكون انتماء للأرض أو الأوراق الرسمية، ولن تكون تلك الروح ولن تنتشر إلا بالوعي التام لمتغيرات الكون وإدراك أهمية التمسك بالهوية والتراث والتعاون المستمر لخدمة المجتمع، والتخلي عن فكرة الهجرة التي تنتشر وبقوة في أوساط المجتمعات العربية، ومحاولة صد الهجمات التي تهدد الوطن العربي سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية.
6-      الإعلام:
الإعلام هو أهم دعائم الثورة التكنولوجية بمختلف روافده فهو الناقل الأول والأسرع للمعلومة وله من قوة التأثير ما لا تحققه السياسات المختلفة أو الحروب. إن كل عوامل تحقيق الأمن الثقافي العربي لا يمكن إرساء دعائم وجودها وبقوة إلا من خلال الإعلام ونشر الوعي بأهميته وكيفية التعامل معه والتواصل مع الآخر من خلاله بشكل ينمي الأهداف المرجوة في مجالات الحياة المختلفة. إن الإعلام هو نافذتنا على العالم وهو الوسيلة الأقوى لتحقيق طموحات وآمال وأفكار الشعوب العربية في الحفاظ على الهوية وتحقيق التنمية والتبادل الثقافي للقيم والحريات وتلبية احتياجات الواقع وتصحيح الصورة السلبية التي يصدرها الإعلام الغربي لنا، ويظل الإعلام هو الأداة الأقوى في إبراز الهوية العربية وتأكيد الوحدة العربية والتواجد العربي في مواجهة العولمة.
7-      الإبداع:
الإبداع من العوامل المهمة في تحقيق الأمن الثقافي العربي والقدرة على منافسة ثقافة العولمة سواء كان فكرياً أو علمياً أو إعلامياً، فهو انعكاس للإرادة العربية في مواجهة الثقافة الكونية، وإرادة الدول الكبرى الساعية للسيطرة على الوطن العربي، وهو القاعدة للهوية الثقافية والفكرية المتجددة، والبيئة المناسبة لقبول ثقافة الفكر والفكر الآخر وحوار الثقافات والحضارات المختلفة الذي يطرحه التقدم التكنولوجي والعولمة بقوة بدلاً من الصراع وسيطرة الفكر الواحد والمصلحة الواحدة.
8-      التكامل الاقتصادي العربي:
إن التكامل الاقتصادي العربي هو ضرورة ملحة لمحاربة عولمة الرأسمالية التي تحاول تفكيك الروابط الاقتصادية وبالتالي  ضعف الأمن والوجود العربي على الساحة العالمية، وهو أيضاً محاولة لفرض هويتنا ضد الرأسمالية العالمية التي تنهي الهوية الاقتصادية العربية، وتستبدل التنمية الوطنية بالنموذج الغربي للتنمية. فالتكامل الاقتصادي العربي يعتبر عنصرًا هامًا لمواجهة خطر الاستعمار وإنهاء الهوية العربية المرتبطة بصلة وثيقة بالاقتصاد والتكنولوجيا والحرية الإنسانية ويعمل على إيقاف استنزاف مواردنا المهملة، فالأمن الاقتصادي مفتاح من مفاتيح الأمن الثقافي.
9-      أخيراً سن القوانين التي ترسم حدود الأمن الثقافي بين الأفراد فيما بينها وبين الحضارات المختلفة وخاصة تلك القوانين التي تحمي الآثار والحضارات والفنون والملكية الفكرية والإبداعية وحقوق الإنسان في الحفاظ على هويته الثقافية المتراكمة على مدى أجيال متعددة ومترابطة ومتتالية عبر الزمان.
الخلاصـــــة
إنه في ظل التطورات السريعة في الأحداث العامة التي تحيط بالوطن العربي والمجتمعات العربية والانهيار الذي طال الكثير من الدول العربية، وفي ظل التهديدات الدائمة والمستمرة والمتزايدة سواء من الدول الكبرى التي لها مصلحة في استعمار مواردنا الطبيعية والإنسانية وحلم الصهيونية الكبير أو الاستعمار التكنولوجي الجديد والمسمى بالعولمة، يظل الأمن الثقافي العربي هو صمام الأمان لتحقيق حلم الشعوب العربية بالتكاتف والتلاحم كالحزمة الواحدة في كافة أوجه الحياة للوصول إلى  الأمن الذي نرتجيه لأوطاننا العربية على كافة المستويات. ومحاولة الوصول إلى آليات تنفيذية عربية مرحلية تستلهم من العوامل المذكورة سبلًا لتحقيق الأمن المرجو وضمان بقاء الوطن العربي وتطوره المستقبلي لتتمتع الدول العربية بدرجات متفاوتة متقاربة من الأمن بكافة مستوياته: ثقافي، حضاري، قومي، اقتصادي وحتى سياسي.
وتظل الوحدة العربية أمل الشعوب العربية، والمرآة التي تعكس أمنها الثقافي والحضاري والقومي، والحلم  الجميل الذي يجب أن نسعى لتحقيقه كواقع نحياه ولو بشكل مرحلي ومتدرج. إن الوحدة العربية هي البوتقة التي تشكلنا في داخلها وترسم في النهاية مصيرًا واحدًا يضمنا وننتهي إليه بالشكل الذي يليق بالتاريخ العربي والشعوب العربية وثقافتها وحضارتها، فهو الحل الذي يفرضه تغير الزمان وتحولاته الطبيعية وإن كان التنفيذ قد يأخذ وقتاً طويلاً لبلورته وتهيئته ليتناسب مع روح العصر ومصالح الدول المتفاوتة والنهضة الحضارية العربية التي نرجوها للوصول إلى  قوة لا يستهان بها في العالم. وستظل الجامعة العربية هي الرحم الذي منه تولد آليات الاتفاق وتنفيذ ما تحتاجه الشعوب والدول العربية لنتطلع إلى غد جديد نكسوه بصلابة أيامنا عبر التاريخ وصمودنا في وجه كل التحديات المحيطة بنا.
إن الهدف الأهم والضروري والعاجل هو حماية الوطن العربي من التفكيك وطمس هويته وتدمير حضارته ومحاولة إنهاء كل أشكال الثقافة المجتمعية واستبدال القيم الأخلاقية التي طالما تمتع بها المواطن العربي بقيم العولمة التي لا تقوم إلا على المصلحة الفردية وفُرقة الدم العربي التي تسعى إليه الصهيونية بكل قوتها لتحقيق حلمها بأن تكون إسرائيل هي الأقوى في المنطقة.
إن العوامل المشتركة بين الدول العربية قادرة على تكوين جبهة عربية متكاملة وقوة عظمى لا يستهان بها مع الأخذ في الاعتبار صلابة المواطن العربي وقدرته على الصبر والتحمل في سبيل أرضه وبيته ومستقبله. إنه من الممكن أن نتشارك المناهج التعليمية والخبرات العلمية التي ترتكز على اللغة العربية كتعبير عن هويتنا وثقافتنا وأخلاقنا التي نستمد منها تاريخنا الطويل وتشكّل عاداتنا وتقاليدنا، ويمكن كذلك وضع سياسات ونهج إعلامية مشتركة تطرح المواضيع الهادفة وتخاطب الإعلام العربي بصوت واحد وترفض وصايته على المجتمع العربي بأفكاره الهدامة، وأن تحشد الفكر العربي لهدف واحد وهو الحفاظ على الهوية العربية. لذا يجب أن نسعى إلى وضع آليات عملية للوصول إلى التكامل الاقتصادي القائم على تبادل الخبرات والموارد سواء كانت البشرية أو المادية ولا يشترط وحدة العملة لتحقيق هذا التكامل بل الأهم هو توحيد القياس وليكن الذهب على سبيل المثال. ومن المهم في نفس السياق تبادل الأفكار والخبرات والكفاءات العلمية لتطوير العمل العربي في كافة المجالات وتدريب الأجيال الصاعدة لخلق صف ثان وثالث. إننا بحاجة كذلك إلى  وضع حجر الأساس لبعض المشروعات القومية العربية المشتركة كالقراءة والمعرفة والترجمة ومشاريع الطاقة الشمسية النظيفة والاستخدام الآمن للطاقة النووية السلمية، مع وضع قوانين جنائية واجتماعية وعلمية موحدة يمكن تطبيقها في كل دولة للمحافظة على تلك المشاريع والجهود المبذولة للنهوض بالمجتمع العربي، ووضع ثوابت مرجعية وخطوط حمراء لا يمكن تعديها للوصل إلى الأمن والأمان المطلوب في كافة ربوع الوطن العربي، ويجب أن نشير هنا إلى الخطوات الأخيرة التي بدأتها الدول العربية بتكوين قوات عربية عسكرية مشتركة للدفاع عن الوطن العربي وحماية أراضيه والتي يمكن أن تعتبر اللبنة الأولى في مشروع النهضة العربي والطريق لتحقيق الأمن العربي بكافة أشكاله.
سيظل الأمن الثقافي العنصر الهام الذي لا غنى عنه في النهضة الاجتماعية، فهو الحماية المطلوبة لحياة إيجابية سليمة يتم من خلالها تعزيز الديمقراطية وممارسة الحريات الفكرية والثقافية والعلمية بشكل عصري، وهو التفاعل الخلاّق والحضاري بين مختلف الشعوب، وهو كذلك الأمن الإستراتيجي الذي يتحقق من خلاله الأمن القومي الذي يعتبر جزءًا لا يتجزأ من الأمن الاجتماعي والحضاري، فالوجود العربي لن يعلو صوته ويضمن تواجده واستمراره على مر الزمان سوى من خلال الحفاظ على الهوية والثقافة واللغة والدين التي تمثل العناصر الرئيسية لتحقيق الأمن الثقافي العربي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المنظمات الدولية والإقليمية بين وجودها التاريخي ومستقبلها المأمول

طريق الحرير .. استراتيجية القوة الناعمة

مستقبل الإعلام في الوطن العربي ... الصحافة الاستقصائية (2)