المنظمات الدولية والإقليمية بين وجودها التاريخي ومستقبلها المأمول


"أي قرارات وإجراءات تهدف إلى تغيير طابع مدينة القدس الشريف أو مركزها أو تركيبتها الديموجرافية ليس لها أي أثر قانوني، وأنها لاغية وباطلة ويجب إلغاؤها امتثالاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة".
تلك الكلمات هي نص مشروع القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بموافقة 128 دولة مقابل رفض 9 وامتناع 35 عن التصويت وذلك بعد إدانات دولية واسعة لقرار ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وفي نهاية الاجتماع أضافت السيدة / نيكي هيلي – المندوب الدائم للولايات المتحدة - بأن مشروع نص القرار يضر بمصداقية الأمم المتحدة، أما المندوب الدائم لإسرائيل فقد وصفه بأنه صادر عن مجموعة من الدمى، وأضاف لا يستطيع أحد "إخراجنا من القدس" على حد تعبيره  "لأن القدس عاصمة اليهود منذ 3 آلاف عام".
إن هذا الموقف الدولي يعبر وبقوة عن الوضع الراهن للعلاقات بين الدول وتأثير نفوذ القوى العظمى في بلورة الصراع الوجودي تحت مظلة الأمم المتحدة، وفي نفس الوقت يثير التساؤل مجددًا حول مدى فعالية الأمم المتحدة بوضعها الحالي في حل الصراعات وترتيب الفوضى القائمة في أرجاء العالم والذي فرضته تضارب المصالح وتشابك العلاقات بين القوى العظمى، فمشروع القرار السابق والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يعتبر غير ملزم لأي طرف. إن وضع المنظمة الدولية الحالي ("الأمم المتحدة" التي تعتبر الأكبر حجمًا من حيث العضوية) يتسم بوجه عام بالضعف حيال تنفيذ القرارات الصادرة عنها. أضف إلى ذلك تصاعد وتيرة الصراعات بين القوى الكبرى في أماكن مختلفة من العالم وخصوصًا في الشرق الأوسط، وتبادل الأدوار المؤثرة والفاعلة الدولية في اتخاذ القرارات وفق اتفاقات مسبقة فيما بينها، تسبب في حدوث  الكثير من التغييرات الجوهرية في السنوات الأخيرة وطالت حتى نظم الحكم حول العالم، فأثرت بقوة على استقرار الشعوب، وجنحت بالقرارات المصيرية في العالم نحو اليمين المتطرف، ناهيك عن العامل الأقوى تأثيرًا في كل مناحي الحياة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية وهو سيطرة العولمة على السياسات العالمية، التي تشكل دون أدنى شك معضلة أخرى لا تقل أهمية عن كل ما ذكرنا في البداية من عوامل مؤثرة، ما لم يتم التعامل مع تداعياتها المختلفة بشكل منظم ومحدد وسريع.
إن كل العوامل المذكورة تطرح وبقوة تساؤلا يدور منذ سنوات طويلة حول مدى إمكانية تحديث وإصلاح المنظمات الدولية وبالتبعية الإقليمية لتواكب كل تلك المتغيرات التي تشهدها الساحة العالمية، وتعمل على حل كل تلك الخلافات المطروحة، وتساهم في إعادة تشكيل العالم الجديد بما يتفق والمستجدات الحديثة، التي تخالف بكل تأكيد الأحوال التقليدية المتفق عليها منذ عقود في المعاملات الدولية. 
قبل أن نتطرق للمسببات والحلول المطلوبة يجب أن نذكر وبشكل سريع بعض الأمور البديهية عن المنظمات الدولية والإقليمية عن تاريخ نشأتها والفروقات الواضحة بينهما التي قد تتداخل في بعض الأمور وتتشابه في أمور أخرى، بما أن الحلول المطروحة لكليهما قد تكون أيضًا واحدة مع فارق الهوية لكل منهما. بدايةً تعتبر المنظمات الدولية والإقليمية نتاج نسج تاريخي محدد، وتم إنشاؤها وفقًا لعوامل معينة ساهمت بشكل كبير في أهمية وجودها عبر الزمان، فالدور الأهم لها كان استقرار الشعوب من خلال استقرار دولها، وتحقيق الأمن والسلام، وضبط الاضطرابات التي قد تطرأ في أي مكان في العالم لسبب أو لآخر، ويظل هذا الدور محوريًا وحيويًا وفعالاً لا يمكن الاستغناء عنه بمرور الزمن، واختلاف الأجيال أو المتغيرات والأحداث. لقد ظهرت فكرة المنظمات الدولية والإقليمية في أوائل القرن العشرين، وتحديدًا بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الدول المشاركة في الحرب بإنشاء عصبة الأمم عام 1919، ثم تلاشى هذا الكيان مع اتساع دائرة الحرب العالمية الثانية واستبداله بمنظمة الأمم المتحدة عام 1945، والتي سبق تاريخ إنشائها بثلاثة أشهر إنشاء جامعة الدول العربية، وبذلك تعد كل من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية أولى المنظمات الدولية والإقليمية في العالم من حيث تاريخ الإنشاء، وهذه الحقيقة التاريخية تجعلهما من أكثر المنظمات حاجة للإصلاح لأنهما يعبران عن جزء مؤثر وهام من العالم، فالأولى تعتبر مظلة عالمية للمجتمع الدولي الكبير، والثانية مظلة لمنطقة من أكثر مناطق العالم تأثيرًا واضطرابًا. وتضطلع الأولى بثلاثة أهداف كبرى تهم الأسرة الدولية مجتمعة ألا وهي:
1- حفظ السلم والأمن الدوليين.
2- تحقيق التعاون الدولي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة.
3- الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب بلا تمييز بين البشر.
أما الثانية فتضطلع بمهام أخرى أبرزها أو أهمها:
·    توثيق الصلات بين الدول الأعضاء وصيانة استقلالها وسيادتها.
·    تحقيق التعاون بين الدول الأعضاء والأهداف المرجوة في المجالات المختلفة (سياسية واقتصادية وتجارية وثقافية وشئون أمنية ومواصلات).
·    تحقيق الأمن والسلام وفض المنازعات بين الدول الأعضاء.
تتمتع المنظمات الدولية والإقليمية بالإرادة الذاتية، وبالشخصية القانونية، وبخصوصية استقلالها عن الدول الأعضاء، حيث إن لها إرادة ذاتية مستقلة عن إرادة الدول الأعضاء، وبالتالي فإن القرارات أو التوصيات الصادرة عن الدول الأعضاء في المنظمة، سواء كانت بالأغلبية أم بالإجماع، تنسب إليها وليس للدول الأعضاء فيها. ولكن تختلف المنظمات الإقليمية عن الدولية من حيث العضوية، فالأولى مفتوحة العضوية كالأمم المتحدة المشار إليها تحديدًا في هذا البحث، بينما الثانية تقتصر العضوية فيها على بعض الدول التي تتفق جغرافيًا أو حضاريًا أو ثقافيًا كالمثل المشار إليه هنا أيضًا وهو جامعة الدول العربية.
تطوّر دور كلا المنظمتين بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب تفشّي النزاعات العرقية والقومية والحدودية الإقليمية، وبروز الحاجة الدولية لمعالجتها وتسويتها بالطرق السلمية من خلال الأدوار الممكنة والمتاحة، بالإضافة إلى ازدياد التنافس الاقتصادي الناتج عن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الذي يتطلب مواجهة من نوع جديد وخصوصًا الإقليمية من أجل الحفاظ على معدّلات التنمية، والخصوصية الوطنية والقومية والأهداف المرجو تحقيقها. فدور المنظمات الإقليمية يستند إلى تفعيل العمل الجماعي من خلال الإطار المؤسسي الإقليمي وتقديم الدعم للعمل المشترك في المحيط الدولي، إلى جانب حل النزاعات والخلافات بين أعضائها، وهو ما يجعل تطوير أدائها وتحديث دورها وتفعيله وفق المتغيرات الحديثة أمرًا لا مفر منه ولا خلاف عليه.
مشاكل المنظمات الدولية والإقليمية
إن الضعف الذي تعاني منه المنظمتان (الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية)، وعدم تمكنهما من  القيام بدورهما، سواءً لبعض القصور في هيئاتهما، أو تنفيذ قراراتهما، أو تفعيل آليات التنفيذ يعود لأسباب عديدة ومختلفة يمكن سرد بعضها هنا.
أولاً- الأمم المتحدة:
إن دور منظمة الأمم المتحدة لا يقتصر فقط على حل المنازعات بين الدول الأعضاء، وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، والتعامل مع التحديات الأمنية المختلفة في كل مكان، بل يمتد ليشمل مروحة واسعة من القضايا المجتمعية الناتجة عن ذلك، وتوفير الحد الأدنى من المعيشة لسكان الدول المتضررة حول العالم من لاجئين وضحايا حروب. وبالتالي فإن أكثر العوامل تأثيرًا على أدائها في هذا الشأن يظل عامل التمويل الذي تتولاه الدول بموجب الميثاق، إن التمويل القائم على الابتزاز لخدمة مصالح معينة للدول الأعضاء يظل العقبة الأولى والأهم في تحقيق الإصلاح المطلوب لتلك المنظمة، وخاصة حين نعلم على سبيل المثال، أن مساهمة الولايات المتحدة هي الأعلى وأنها تحتكر مسؤولية الشؤون المالية والأفراد من خلال منصب الأمين العام المساعد للشؤون المالية والأفراد. وبذلك تقوم بشكل دائم بالضغط على المنظمة من أجل مصالحها، وفرض إرادتها بما يتفق مع سياستها دون النظر إلى مصالح الدول الأخرى الأعضاء في المنظمة، أو أهمية القرارات الصادرة عنها، ويتم ذلك في الغالب إما باستخدام حق الفيتو أو بالعمل على وقف الإمدادات المالية التي تحتاجها المنظمة.
وعلى الرغم من قيام المنظمة بالحفاظ على الأمن والسلم من خلال نشر ما يقرب من 42 وحدة من قوات حفظ السلام، وبعثات المراقبة الدولية، إلا أنها فشلت في تسوية الأزمات السياسية والحروب في سوريا وليبيا واليمن وفلسطين، وهذا التذبذب في الأداء يعود في الغالب إلى إرادة الدول الكبرى المهيمنة على المنظمة من خلال مجلس الأمن (الذي يعتبر أهم الوحدات الست المكونة للأمم المتحدة، ويتكون من 15 مجلسًا من 15 دولة عضو تستأثر فيها خمس دول فقط بحق النقض "الفيتو") وتعارض مصالحها، فمجلس الأمن يتم استخدامه أغلب الوقت لخدمة مصالح تلك الدول الخمسة وعرقلة مصالح الخصوم (لقد استخدمت الولايات المتحدة على سبيل المثال حق النقض أكثر من خمسين مرة ضد المصالح العربية وحماية إسرائيل). وذلك يعتبر مجلس الأمن أكثر أجهزة الأمم المتحدة طلبًا للإصلاح، حيث إن القرارات الصادرة عنه تعتبر قرارات ملزمة للدول الأعضاء بينما قرارات الجمعية العامة غير ملزمة على الإطلاق، خاصة وأن الدول الخمسة الأعضاء هي من تتحكم في المجلس بشكل رئيسي، مما يجعله يعاني من نقص الشفافية في أدائه وتحديدًا حين تعقد الكثير من جلساته بصورة سرية رغم أنها من المفروض أن تكون علنية. فعضوية المجلس الدائمة تعتبر أحد أهم المشاكل التي يعاني منها، وخصوصًا في ظل سعي بعض الدول إلى الحصول على مقعد دائم لأسباب مختلفة مع النظام الداخلي.
 تعاني أيضًا الأمم المتحدة من فشل نظام الأمن الجماعي، وهو النظام الذي تشارك فيه كافة الدول الأعضاء، وينص على أن أي عدوان على إحدى الدول الأعضاء يعتبر عدوانًا عليها جميعًا ويجب صده بمعايير محددة، لكن هذا النظام يشترط الإجماع من الدول الأعضاء في مجلس الأمن للتنفيذ.
من المشاكل الرئيسية الأخرى الهامة التي تواجهها الأمم المتحدة البنية الداخلية من حيث ضرورة تعديل مواد الميثاق التي أصبحت لا تتفق مع المتغيرات الدولية على الساحة، وكذلك الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة، حيث أظهرت التجربة انتفاء الحاجة لبعض الأجهزة الرئيسية لها إما لانتهاء دورها أو لانتفاء وظيفتها مثل مجلس الوصاية، إلى جانب التضخم الهائل في الهيكل التنظيمي بسبب الأجهزة الفرعية وتضخم الجهاز الإداري للأمانة العامة وتعدد الاختصاصات وتضاربها.
ثانيًا- جامعة الدول العربية:
لا تختلف كثيرًا الأسباب التي أدت إلى ضعف أداء الجامعة العربية سياسيًا أو ميدانيًا عن تلك الأسباب التي تعاني منها منظمة الأمم المتحدة من حيث آليات التمويل أو الهيكل التنظيمي. بل الواقع الذي تشهده الجامعة العربية يظل الأكثر صعوبة بسبب التحولات الكارثية التي تهدد أمن واستقرار المنطقة، والتي تمثل عبئًا خطيرًا على الجامعة العربية التي لم تعد قادرة على القيام بواجبها في ظل انفراط العقد العربي، فالخلافات العربية والتدخل الدولي في الشأن العربي مما أدى إلى تردي العلاقات العربية - العربية يعتبر التحدي الأخطر الذي تواجهه الجامعة العربية.
تواجه الجامعة العربية تحديًا آخر لا يقل خطورة متمثلا في وجود تكتلات في الوطن العربي مثل مجلس التعاون الخليجي، واتحاد دول المغرب العربي تؤثر وبشكل فعال في قرارات الجامعة وفي خلق أزمات تزيد من عبء الجامعة العربية حيث تزداد الهوة بين الدول الأعضاء وتتفاقم المشكلات والخلافات فيما بينهم، مما يمنع تحقيق التوافق الكامل حول الكثير من الأمور، وافتقاد التجانس والقدرة على توحيد وجهات النظر.
كذلك التراجع الحاد الذي أصاب الهوية العربية بضغط من أيديولوجيات أخرى سواء كانت مذهبية أو طائفية أو إثنية وغيرها، أو وجود جماعات جهادية تستخدم الإسلام كرداء لاتجاهات تخالف نظام الدولة فتح الباب على مصراعيه لأدوار قوى إقليمية إسلامية مثل تركيا وإيران، وإلى تراجع الطابع الوطني القومي العربي، مما كان له بالغ الأثر في حالة التفكك العربي الذي تعيشه حاليًا الدول العربية بشكل كبير وأدى إلى إحداث فراغ في القوى السياسية النظامية.
إن كل تلك التحديات تعتبر ركائز أساسية في تراجع دور الجامعة العربية، فأصبحت الجامعة العربية في حاجة ماسة إلى التعامل مع تلك التحديات ومواجهتها لكي تنهض من جديد، ويمكن اختزال تلك التحديات في: تحقيق التضامن العربي، وتطوير وسائل الأمن الجماعي الذي يعتبر ركيزة هامة لتحقيق الأمن القومي، والتسوية السلمية للمنازعات الإقليمية، ومعالجة واقعية لمشاكل التكامل الوظيفي الإقليمي.
دور العولمة كمفهوم وواقع ملموس في الضغط على المنظمات وإضعاف دورها
قبل أن نتطرق للحلول المطروحة لتشكيل المستقبل المأمول للمنظمات الدولية والإقليمية يجب أن نذكر أكثر العوامل التي تواجه المنظمات الدولية والإقليمية خطورة ألا وهي العولمة، بل إنها تعتبر من العوامل المؤثرة وبشدة في الأداء الضعيف والمذبذب للمنظمات، فهي من أكبر التحديات التي تمثل ضغطًا حقيقيًا عليها.
إن العولمة كمفهوم عام يشير إلى حرية انتقال المعلومات، والسلع، والتكنولوجيا، ورؤوس الأموال، والمنتجات الثقافيّة والإعلاميّة، والأفكار، وحتّى البشر أنفسهم عبر المجتمعات الإنسانيّة، حيث أصبح العالم قريةً صغيرةً واحدة، فالعولمة ظاهرة عالمية تهدف إلى تعزيز التكامل في المجالات الاقتصاديّة، والتجاريّة، والماليّة، والربط بين القطاعات العالميّة والمحليّة، وتعتبر الثورة المعلوماتية المتبوعة بثورة الاتصالات السبب الرئيسي في توسيع تأثير نطاقها في مدة زمنية قصيرة. ولكن هذه الظاهرة على قدر ما حققت من منافع على قدر ما تسببت في الكثير من الأضرار، فالعولمة تفترض إخضاع العالم لنمط محدد من العلاقات الدولية والعالمية وفق تصور منضبط، فهي في الأصل تقوم على الفرض والإملاء. وبالتالي فإن التحديات التي تواجهها المنظمات الإقليمية والدولية بسبب العولمة تتمثل في الأغلب في تنوع أشكالها واختلاف أنماطها وسهولة استخدامها للوصول إلى غايات وأهداف لا تخضع للقانون ولا للإرادة السياسية، مما قد يهدد أنماط الاستقرار التقليدية في العالم، وذلك إذا ذكرنا على سبيل المثال ظهور جيل جديد من الأطراف الفاعلة الذي لا يخضع ولا ينتمي للدولة بمفهومها العام (كالجماعات الجهادية العنيفة التي استخدمت العولمة كوسيلة سهلة تخترق بها الحدود وتعبر القارات، مما مكنها أحيانًا من التفوق عسكريًا على بعض الدول، وأن تعمل بشكل كامل خارج إطار القانون الدولي، وتستخدم شتى الطرق لبث الفرقة والتشرذم، مما دفع ببعض الدول إلى الانقسام والتفكك وهدر ثرواتها وسيطرة تلك الجماعات على مقدرات بعض الدول اقتصاديًا والتحكم في ثرواتها).
 إن الضغوط التي تمارسها العولمة بصورها المختلفة والمتناقضة تدفع بالعالم إلى الهاوية ما لم يتم ضبط تلك الضغوط، فأصبح من الضروري مواجهة أضرارها بكل حزم وبشكل مستمر، من خلال المنظمات الدولية والإقليمية، لأن الجزء الأكبر من الحل يكمن في فعالية دور تلك المنظمات وتأثيره الفعال في تشكيل مجريات الأمور في مواجهة أضرار العولمة حتى نستطيع وقف تمددها واستبدال الأضرار بنتائج إيجابية وكفاءة وقوة، لقد أصبح من الضروري اعتماد نظام أكثر مرونة وأكثر تمثيلاً للإرادة الدولية وتعزيز المجتمع المدني العالمي وكذلك المنظمات الدولية غير الحكومية.
الإصلاح من أجل مستقبل مأمول
إن خطوات الإصلاح المطلوبة في الوقت الراهن هي وحدها القادرة على تشكيل المستقبل المأمول للمنظمات، وفق نهج يوازن بين أهمية دورها التاريخي، ومتطلبات العصر القادم الذي يختلف كلية عن كل ما سبق، فالمنظمات الدولية والإقليمية رغم ضعفها الحالي تظل رمانة الميزان في العلاقات بين الدول، وهي الملاذ الأخير للشعوب والمجتمعات المدنية في تحقيق الاستقرار والأمن والسلام وصولاً إلى الرفاهية ورغد العيش. فما هي تلك الخطوات المطلوبة من أجل الإصلاح؟
أولاً- الأمم المتحدة:
لقد احتفلت مؤخرًا الأمم المتحدة بعيدها السبعين، ولقد عمل الأمناء العامون طوال تلك المدة على تقديم تقارير في نهاية مدتهم بشأن الإصلاح وأهميته وضرورته في النهوض بالأمم المتحدة لتصل إلى المستوى المطلوب في الأداء، وتفي باحتياجات الشعوب والدول. إلى جانب المقترحات التي قدمها الأمناء العامون، قامت أيضًا مجموعات مختلفة من الدول بتقديم اقتراحات وطلبات للإصلاح "مثل الاتحاد الأفريقي ومجموعة الخمس الصغار(الأردن وسنغافورة وسويسرا وكوستاريكا وليشتنشتاين) ووزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي"، في الوقت الذي عارضت فيه دول أخرى أي محاولة للإصلاح لأن أي تغيير في كيان الأمم المتحدة يهدد مصالحه وقوة نفوذه في العالم. كل الدعوات المطروحة لإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن باعتباره أهم وحدة في الأمم المتحدة وقراراته ملزمة لكل الدول تتمثل في مجملها في التالي:
·    وضع جدول أعمال متكامل للمنظمة لسنوات قادمة يتعامل مع المتغيرات الراهنة والمستقبلية.
·    مراجعة شاملة وذكية لمهام المنظمة ولهيكلها التنظيمي الإداري، ومواردها البشرية، وتمويلها.
·    التزام الشفافية كنهج في الميزانية، والاعتماد على مبدأ النتائج واعتماد نظام الرقابة المتبادلة، ورفع الكفاءة والفعالية لدى الموظفين.
·    تجديد الدول الأعضاء للالتزام السياسي نحو المبادئ الرئيسية التي أُنشئت من أجلها تلك المنظمة.
·    إصلاح حقيقي لمجلس الأمن - الذي يعتبر جزءًا هامًا من إصلاح منظومة الأمم المتحدة بما يستجيب للوقائع والتطورات الراهنة قصد تحقيق السلم والأمن الدولي - من حيث التمثيل(توسيع حق العضوية)، وتوسيع نطاق حق النقض (الفيتو)، ووضع معايير تمنع استخدامه من قِبل أطراف النزاع، وكذلك الحق في التصويت.
·    تكامل دور الحكومات مع مؤسسات المجتمع المدني سواء عالميًا أو إقليميًا خارج أطر الدبلوماسية التقليدية.
·    ضرورة بلورة نظام للأمن الجماعي (والذي يعتبر أحد أهم مهام مجلس الأمن) لا يكون هدفه تسوية النزاعات السياسية بين الدول أو قمع العدوان، وإنما المعالجة الشاملة لجذور الأزمات الدولية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية من خلال المعاهدات والاتفاقيات الدولية، مع ضرورة وضع سلطات تشريعية وقضائية مستقلة تحقق التوازن المطلوب.
إن التحدث عن مقترحات الإصلاح المطلوب يطول شرحه ويظل الأهم هو تبني الدول لرؤية ذات مفهوم شامل يلبي احتياجات الدول بما يتفق مع القرن الواحد والعشرين وليس دول بعينها، ويناهض سياسة الهيمنة المضادة تماما لطبيعة الأمم المتحدة بوصفها منظمة دولية أو نظام الأمن الجماعي المنشود والذي يعبر عنه باللجوء إلى القوة أو التهديد باستعمالها.
ثانيًا – جامعة الدول العربية:
تمر جامعة الدول العربية بفترة من أسوإ الفترات في تاريخها، فهي مثقلة بالعديد من المشاكل والهموم والقضايا والنزاعات، ولكن الرغبة في حل تلك الأزمات والرغبة في عدم التراجع عن مواكبة تلك الأحداث والتعامل معها بفاعلية بما يتفق مع المتاح، دفعت الجامعة العربية مؤخرًا إلى القيام بعدة خطوات تهدف إلى إصلاح منظومة العمل الجماعي، وذلك تنفيذًا للقرار الصادر عن القمة العربية الأخيرة التي عُقدت في الأردن خلال مارس 2017 بتكليف لجنة تقوم بإجراء تقييم شامل للإصلاحات المطلوبة وتطوير الجامعة العربية، تنبثق عن تلك اللجنة أربعة فرق عمل يعنى كل منها بجزء من أجزاء تطوير وإصلاح العمل العربي المشترك، حيث يتولى فريق العمل الأول، والذي ترأسته المملكة العربية السعودية، الجزء الخاص بمراجعة الميثاق وتطوير الإطار الفكري لمنظومة العمل العربي المشترك ليتماشى مع أولويات ومتطلبات المرحلة المعاصرة للعمل العربي، بما في ذلك التطورات والتحديات التي شهدتها المنطقة بعد إنشاء الجامعة العربية، ومن بينها على سبيل المثال ما يتعلق بمكافحة الإرهاب والتطرف وتعزيز وحماية حقوق الإنسان. ويتولى فريق العمل الثاني، والذي ترأسته الجمهورية التونسية، دراسة كيفية تطوير أجهزة الجامعة ومهامها ومن بينها مجلس السلم والأمن العربي وهيئة متابعة وتنفيذ القرارات والالتزامات، كما يبحث مقترحات إنشاء أجهزة جديدة. أما فريق العمل الثالث، والذي ترأسته جمهورية العراق، فهو يعنى بالارتقاء بالعمل الاقتصادي والاجتماعي العربي المشترك من خلال تطوير عمل المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة واللجان المنبثقة عنه المجالس العربية المتخصصة. فيما يتناول عمل الفريق الرابع، والذي ترأسته الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، تطوير البعد الشعبي لجامعة الدول العربية في العمل العربي المشترك، وذلك من خلال دراسة دور البرلمان العربي في هذا الصدد، وأيضًا دور منظمات المجتمع المدني في العمل العربي المشترك.
 إن الخطوات السابقة الذكر تعتبر خطوات أولية تعبر عن رغبة الدول العربية لرأب الصدع الذي خلفته ثورات الربيع العربي والتدخل الأجنبي في مقدرات بعض الدول، ولكن يجب أن تتبعها خطوات أخرى أهم تحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد لتنفيذها منها:
·    تطوير نظام الأمن القومي العربي وآليات تنفيذه.
·    تغيير طرق التمويل التي تمنح الجامعة العربية الحرية لتنفيذ برامجها مع وجود رقابة مالية بأدوار تبادلية بين الدول سنويًا تتسم بالشفافية، ومن خلال آليات مالية تتماشى مع روح العصر وأساليبه المتطورة.
·    تطوير أساليب ونهج العمل العربي المشترك بآلياته المتعددة.
·    منح الجامعة العربية وأمينها العام المزيد من الحرية في التعامل الفعال في التسويات السياسية الإقليمية والإشراف على موضوعات تهتم بإصلاح الشأن العربي.
·    التعاون مع المنظمات غير الحكومية والتي تسعى لنهضة مجتمعاتها ضمن أطر قانونية واجتماعية وثقافية محددة.
في النهاية يجب أن نذكر أن كل دعوات الإصلاح لن تكون ذات نفع أو جدوى إلا بإدراك أهمية تلك الدعوات ورغبة الدول في تنفيذها، ومادامت المصالح لا تتفق فالإصلاح المطلوب لن يكون جذريًا أو بشكل كامل، ولكن السعي لاتخاذ خطوات أولية سيتوافق بكل تأكيد مع المتاح والممكن، فتظل الأمور في نطاق التفاؤل وتبشر بمستقبل مأمول.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طريق الحرير .. استراتيجية القوة الناعمة

مستقبل الإعلام في الوطن العربي ... الصحافة الاستقصائية (2)